التوحد والحمل الحسي الزائد: كيفية تطبيق استراتيجيات ABA في التعامل معه
مقدمة
اضطراب طيف التوحد (ASD) هو حالة نمائية عصبية تؤثر على كيفية تفاعل الأفراد مع العالم من حولهم. يعاني العديد من الأطفال المصابين بالتوحد من الحمل الحسي الزائد (Sensory Overload)، والذي يحدث عندما يصبح الدماغ غير قادر على معالجة المعلومات الحسية الواردة بطريقة طبيعية. يمكن أن تؤدي هذه الحالة إلى مشاعر القلق، نوبات الغضب، الانسحاب الاجتماعي، أو حتى فقدان السيطرة على السلوك.
يواجه العديد من الأهالي، وخاصة الأمهات، صعوبات في التعامل مع ردود الفعل غير المتوقعة لأطفالهم المصابين بالتوحد عند تعرضهم لمحفزات حسية مزعجة، مثل الضوضاء العالية، الأضواء الساطعة، أو حتى بعض أنواع الأقمشة. من هنا، يأتي دور تحليل السلوك التطبيقي (ABA) كواحد من أكثر الأساليب فاعلية في التعامل مع الحمل الحسي الزائد، حيث يعتمد على التعديل السلوكي والتدخل المنهجي لمساعدة الأطفال على التكيف مع المحفزات البيئية المختلفة.
ما هو الحمل الحسي الزائد؟
تعريف الحمل الحسي الزائد
الحمل الحسي الزائد هو حالة من التشبع الحسي التي تحدث عندما يتلقى الدماغ كميات كبيرة من المدخلات الحسية دفعة واحدة، مما يؤدي إلى إجهاد عصبي وصعوبة في التعامل مع البيئة المحيطة. يحدث ذلك عندما لا يتمكن الجهاز العصبي المركزي من تصفية المعلومات الحسية الزائدة أو التمييز بين المحفزات المهمة وغير المهمة.
أسباب الحمل الحسي الزائد عند المصابين بالتوحد
الحساسية السمعية: بعض الأطفال التوحديين يكون لديهم استجابة مفرطة للأصوات المرتفعة مثل أجهزة الإنذار، الموسيقى الصاخبة، أو حتى أصوات الأجهزة المنزلية كالمكنسة الكهربائية والخلاط.
الحساسية البصرية: يمكن أن تسبب الأضواء الساطعة، الفلورية، أو الأنماط البصرية المعقدة شعورًا بالإجهاد وعدم الارتياح.
الحساسية اللمسية: بعض الأطفال يكرهون لمس أنواع معينة من الأقمشة، أو لا يتحملون قص الشعر أو الاستحمام بسبب شعورهم بعدم الراحة عند التلامس.
الحساسية الشمية: روائح العطور القوية، مواد التنظيف، أو بعض الأطعمة يمكن أن تؤدي إلى ردود فعل شديدة لدى بعض الأطفال المصابين بالتوحد.
مشكلات الإدراك الحسي العميق (Proprioception): بعض الأطفال قد لا يشعرون بوعي كافٍ بوضعية أجسادهم في الفضاء، مما يجعلهم غير متوازنين أو غير مرتاحين في الحركة.
تطبيق استراتيجيات ABA في التعامل مع الحمل الحسي الزائد
تحليل السلوك التطبيقي (ABA) هو طريقة مثبتة علميًا تهدف إلى تعليم المهارات وتعزيز السلوكيات الإيجابية من خلال الملاحظة، التحليل، والتدخل السلوكي. يمكن تعديل استراتيجيات ABA لتناسب احتياجات الأطفال الذين يعانون من الحمل الحسي الزائد، مما يساعدهم على التكيف مع المواقف التي تسبب لهم القلق أو التوتر.
1. تحديد المحفزات الحسية المزعجة باستخدام تحليل ABC
يستخدم محللو السلوك مبدأ تحليل ABC لتحديد المثيرات البيئية التي تسبب الحمل الحسي الزائد:
A (Antecedent) – الحدث السابق: ما الذي يحدث قبل نوبة الحمل الحسي؟ هل هو ضوء ساطع؟ أم صوت معين؟
B (Behavior) – السلوك: كيف يستجيب الطفل؟ هل يصرخ، يهرب، يضرب، أم يبكي؟
C (Consequence) – النتيجة: ما الذي يحدث بعد ذلك؟ هل يتم تهدئة الطفل؟ هل ينسحب من البيئة؟
أمثلة للأمهات:
إذا كان طفلكِ يتوتر عند سماع صوت الخلاط، جربي تشغيله بصوت منخفض أثناء تقديم مكافأة محببة، ثم زيدي الصوت تدريجيًا.
إذا كان طفلكِ يرفض دخول الحمام بسبب حساسيته للماء، جربي تقليل كمية الماء المستخدمة أولًا، ثم زيادتها تدريجيًا مع التعزيز الإيجابي.
2. تعديل البيئة لتقليل المحفزات المزعجة
يعد تعديل البيئة أحد أهم استراتيجيات ABA لمساعدة الأطفال على التعامل مع الحمل الحسي الزائد. يمكن تحقيق ذلك من خلال:
استخدام الأدوات المساعدة: مثل النظارات الشمسية لتخفيف الإضاءة، سماعات تقليل الضوضاء، أو الملابس القطنية الناعمة لتقليل التهيج الجلدي.
إنشاء مساحات آمنة: تخصيص زاوية هادئة في المنزل حيث يمكن للطفل الاسترخاء بعيدًا عن الضوضاء والمحفزات البصرية القوية.
توفير جدول زمني واضح: الأطفال المصابون بالتوحد يحبون الروتين، لذلك يمكن استخدام القصص المصورة المرئية (Visual Schedules) لتوضيح الخطوات اليومية لهم وتقليل التوتر الناتج عن التغيرات المفاجئة.
أمثلة للأمهات:
إذا كان طفلكِ يشعر بالإرهاق في المدرسة، تحدثي مع المعلم حول إمكانية توفير مكان هادئ للراحة عند الحاجة.
عند الذهاب إلى مطعم مزدحم، خذي معكِ لعبة حسية مهدئة مثل كرة التوتر لمساعدة طفلكِ على الاسترخاء.
3. استخدام التعزيز الإيجابي والتدريج في التعرض للمحفزات
يستخدم ABA التعزيز الإيجابي لمساعدة الطفل على بناء استجابات تكيفية تجاه المحفزات الحسية. يمكن القيام بذلك عن طريق:
مكافأة الطفل عند تحمله لموقف حسي صعب (مثل تقديم لعبة أو مدح عند ارتدائه نوعًا جديدًا من الملابس دون انزعاج).
التدرج في التعرض للمحفزات، مثل تعريض الطفل للمحفز بشكل طفيف ثم زيادته تدريجيًا.
أمثلة للأمهات:
إذا كان طفلكِ لا يتحمل لمس الرمل، اجعليه يلمس الرمل بطرف إصبعه لثوانٍ، ثم زيدي المدة تدريجيًا مع مكافأته بعد كل محاولة ناجحة.
إذا كان طفلكِ يعاني من حساسية للأطعمة الجديدة، جربي تقديم الطعام الجديد بجانب الطعام المفضل لديه بجرعات صغيرة.
4. تعليم استراتيجيات التأقلم وتنظيم الذات
يساعد ABA في تعليم الأطفال كيفية تنظيم استجابتهم الحسية من خلال استراتيجيات التأقلم مثل:
تمارين التنفس العميق: لمساعدتهم على الهدوء في المواقف المحفزة.
استخدام الأدوات الحسية: مثل البطانيات الثقيلة أو كرات الضغط لتهدئة الجهاز العصبي.
أمثلة للأمهات:
عندما تلاحظين أن طفلكِ بدأ يشعر بالتوتر، ساعديه على ممارسة تمارين التنفس العميق.
استخدمي وسائل بصرية (مثل الصور والبطاقات) لمساعدته على التعبير عن مشاعره بدلاً من الانهيار العصبي.
خاتمة
التعامل مع الحمل الحسي الزائد لدى الأطفال المصابين بالتوحد قد يكون تحديًا كبيرًا، لكن باستخدام استراتيجيات ABA، يمكن تهيئة بيئة داعمة تساعدهم على التكيف بشكل أفضل. من خلال تحليل المحفزات، تعديل البيئة، تعزيز السلوكيات الإيجابية، وتعليم استراتيجيات التأقلم، يمكن للأطفال تعلم كيفية مواجهة المواقف الحسية الصعبة بطريقة أكثر تحكمًا وهدوءًا.
رسالة للأمهات:
كوني صبورة ولا تشعري بالإحباط إذا لم تلاحظي تحسنًا فوريًا. كل طفل يختلف عن الآخر، وما ينجح مع طفل قد لا يكون مناسبًا لطفل آخر. حاولي تجربة استراتيجيات مختلفة واكتشفي ما يناسب طفلكِ بشكل أفضل. الأهم من ذلك، استمتعي بالرحلة وساعدي طفلكِ على الشعور بالأمان في عالمه الحسي!